نحن الآن أمام مرحلة سياسية مختلفة؛مرحلة ما بعد المشتركة، هذا الإطار الذي أردنا له أن يُشكّل نموذجًا مختلفا للعمل السياسي الوحدوي. نموذجًا جامعًا ومنظّماً، ليس لنفسه فقط ؛ بل للنشاط السياسي الشعبي، وقد أملت وأملنا أن يُشكل هذا النموذج حجرًا أساسًا في مسيرة التغيير السّياسي والمجتمعي المنشود.
عند تشكيل المشتركة علّقنا آمالا لترسيخ نموذج تنظيمي يحتضن الناس، ويحمل همومهم، وما زلت أؤمن أنّ ما زال بالإمكان استعادته وفرضه على بعض الاحزاب وبعض القيادات فيها ، التي لم تُدرك عُمقه ومردوده السياسي والاجتماعي، بل اكتفت ببعض المحاولات، ولم تعطِ أي اهتمام لمعناه الإستراتيجي، وأرادت أن تعود الى منطقتها الآمنة والكسولة.
باعتقادي فإنَّ هذه المرحلة لا تقتصر على كونها مختلفة ، بل يمكن القول بأنها مفصليّة، كذلك أداء الأحزاب السياسي والتنظيمات الفاعلة في هذه الانتخابات سيحدّد ملامح المرحلة القادمة، وسيحدّد شكلًا مختلفًا من العلاقة بين الأقلية الفلسطينية وإسرائيل ومؤسساتها.
أستطيع الإشارة إلى توجهات مختلفة طغت على المشهد السياسي بين فلسطينيي الداخل؛ هذه التوجهات تتأثر بالممارسات الإسرائيلية ومخطّطات طمس الهويّة الفلسطينية واستبدالها بهوية مع معايير اسرائيلية تتجاوز القضية الفلسطينية وتاريخها. هذه التوجهات قد تؤثّر على قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، وهذا التأثير يؤسّس لمرحلة مختلفة في التعامل مع العمل السياسي، ولأن العمل السياسي يرتبط ارتباطًا عميقًا ببعده الوطني، تصبح هناك تمايزات في مواقف التوجهات والمركبات السياسية.
من منطلق هذا الفهم وفي هذه المرحلة، نحن مطالبون أن نحدّد ملامح للاعتبارات التي سترافقنا في بناء وتنجيع الأداء السياسي، وأيضًا لترسيخ آليات عمل تنظيمية ترتقي إلى مستوى التحديات.
اليوم في ظل وجود قائمتين، تصبح المسؤوليّة مضاعفة، خصوصًا بعد تجربة المشتركة، مع كل إخفاقات المشتركة والحاجة إلى تصويب أدائها السياسي والوحدوي، إلّا أنها أعطت الناس معنًى مختلفًا للسياسة، وقد يكون هذا أملًا في نفق طويل من التضييق ومحاصرة العمل السياسي وضيق الحال وتسيير أمور حياتية عادية.
التحدّي الآن هو؛ كيف تخرج الأحزاب إلى الناس، هناك مسؤولية كبيرة بأن تؤكّد الحملة الانتخابية مفاهيم سياسيّة تعكس عمق الرؤية السياسية والاجتماعية أيضاً. نتحدث عن مرحلة سياسية بعد قانون القومية و”كمينتس”، نتحدث عن سيطرة النخبة اليمينية الاستيطانية على مراكز اتخاذ القرار في الحكومة، مع حقيقة أن اليسار الإسرائيلي المتخبط بالصهيونية لم يفلح بطرح رؤية بديلة تشكل تحديًّا حقيقيًّا أمام هذه الهيمنة، وبالإضافة إلى هذا كلّه، هناك مسلسل الملاحقة السياسية للقيادات الفلسطينية في الداخل، في محاولة لنزع الشرعية عنها، وضرب العمل السياسي ومفهومه.
تتلخّص تجربة العمل البرلماني في دورها النضالي، وهي المراكمة في تعميق أهميّة هذه الساحة النضالية؛ حيث تزيد من مسؤوليّة رسم ملامح مستقبل أفضل.
العمل البرلماني هو عمل نضالي يتقاطع بطبيعته مع قضايا الناس وهمومهم، لذلك هنا يكمن تحدٍ آخر، وعلى الأحزاب السياسية أن تتعامل معه وتواجهه، في استثمار الحملة الانتخابية واللقاءات مع الناس، لتعزيز العلاقة بين الناس والقيادة، من جهة ولحمل صوت وقضايا الناس من جهة أخرى. وهي فرصة لتعزيز مكانة الخطاب السياسي الى جانب قضايا الناس.
التجربة البرلمانية تستحق كل مرة من جديد دراستها والعمل على تحسين أدائنا بها وتعزيز السياق السياسي فيها؛ خصوصا أن الحلبة البرلمانية مليئة بقضايا يومية. وأقول قاطعاً أن القضايا المدنية هي القضايا الوطنية والسّياسيّة ، ولا يمكن فصلها عن القضايا القومية العامة، وإلّا كيف نفسّر قضايا التعليم، الطفولة، المواصلات والصحة وكل القضايا المدنية الوطنية؟ لذلك هناك مسؤوليّة في فهم دور القيادي البرلماني بالشكل الصحيح؛ كي يستطيع أن يقوم بدوره بشكل صحيح في حلبة مركبة تقارع الصهيونية يوميًا وتتحدى سياساتها على أشكالها.
يجب التأكيد بأنّ ساحات النضال تتقاطع ؛ فساحة العمل البرلماني تتقاطع باضطراد مع ساحات العمل الشعبي الميداني، فمثلاً لا يمكن أن تواجه مخطّط طنطور بدون عمل سياسي شعبي كفاحي منفرد ، وبدون عمل برلماني تستغل فيه الأدوات البرلمانية وتتقاطع فيه عمليات المناصرة والمرافعة المهنية.
تكمن أهميّة العمل البرلماني في العمليات المتتالية التي تسعى لتغيير السّياسات، فوجودنا في هذا المكان رغم الغربة والصعوبة، إلّا أنّه يبقى مُهِمًّا، والأهم هو تغيير المعادلة والمباشرة في فرض تحديات أمام اسرائيل ومحاصرتها كي تعمل على تغيير سياساتها التي تنبع من منظومة معطوبة تأسست على مشروع صهيوني إقصائي.
مع هذا، هناك أهميّة قصوى لنا كأصحاب لهذه البلاد وقد اخترنا النضال السياسي كنضال يحرج الصهيونية ويضيف عبئًا عليها وعلى مشروعها؛ وهذه العملية مشروطة بأن نتقن اللعبة السياسية إتقانًا كاملًا.
أمام كل هذا المشهد السياسي الإِقصائيّ الذي انعكس مؤخرًا بسلسلة قوانين تنزع شرعية الفلسطيني وتجرّم عمله السياسي؛ لا يبقى إِلّا أن تدرك الأحزاب في هذه المرحلة بالذات الدور السياسي الذي عليها التعامل معه بتقاطعاتها مع الناس، وبين تصليب الرؤية السياسية الاجتماعية الوطنية التي تستطيع أن تشكل حصانة لشعبنا الذي تحاك ضده مخططات وقوانين وسياسات.
إنَّ الجلوس على الحياد والنظر إلى هذا المشهد ومراقبته بدون العمل على تغييره هو ترف لا نملكه. وإنَّ المسؤولية في تنجيع الأداء السياسي ملقاة إلى حد كبير على القيادات الحزبية، وعلى الكوادر الحزبية والنشطاء السياسيين، وحتى إن لم يوافقوا على كون الكنيست ساحة نضال. هذه المسؤولية تأخذ شكلًا مغايرًا اليوم، وهي تبدأ من لحظة خروج الكوادر والنشطاء والقيادات إلى الناس. المسؤولية تتجلى بالابتعاد عن المناكفات الفارغة، والاقتراب أكثر من الالتزام لإيصال رسائل سياسية، وتعميم حالة وعي للناس تكون بمثابة ترشيد للمرحلة المقبلة.
النقاش السياسي شرعي ولكن بأصوله وهو صحي ومطلوب، وقد تكون المشتركة سببًا في تغييب النقاش السياسي بمركباتها، واليوم يجب أن ندرك أكثر من أي وقت مضى مدى جاهزية الناس لأن ينخرطوا في مشروع سياسي يحمل قضاياهم وهمومهم؛ فالناس كما في كل مكان في العالم ينتظرون من القيادة حلولًا لهذا الواقع المركب، وليس الاكتفاء بتحليله. القيادة اليوم مطالبة بأداء مسؤول له أفق يحمل مشروعًا مقابل مشروع إسرائيل الصهيوني ؛ وهو مشروع اجتماعي نهضوي أمام مجتمعنا وناسنا.
التعويل الآن على قيادات شبابية لا تكتفي بالنظر إلى ساحات مستقبلها من مدرجات الدرجة الثالثة، بل إلى قيادات ترسم وتحدّد وتخطّط مستقبلها وتقرّره بيدها، ترسمه لأنها مدركة أهمية شكل العمل السياسي الذي نريد له أن يكون الآن والآن بالذات.
عندما ندرك أهمية نضالنا المنظّم وأنّ لعملنا الوطني والسياسي معنى وحدويًا،
عندها سنصير معًا أقوى.
إضافة تعقيب